فينيسيا مدينة البينالي

  




فينيسيا - محمد هاشم عبد السلام


منذ قرون عديدة، تُعد فينيسيا، أو “فينيتزيا”، كما تنطق بالإيطالية، مدينة الفنون والرقص والاحتفال، وكلّ جديد ومتميّز في هذه المجالات. بالنسبة إلى كثيرين، يقترن اسمها بمهرجانها السينمائي الأعرق والأقدم عالميًا. مع أن احتفالات عديدة ومختلفة تُقام فيها سنويًا. وعلمًا بأن شوارعها تشهد كلّ عام، منذ القرن الـ17، أحد أهمّ الكرنفالات العالمية. يُشارك فيه نحو 3 ملايين زائر، وتُميّزه الأزياء التقليدية، وطبعًا الأقنعة “الفينيسية” الشهيرة، المرتبطة بتاريخ الكرنفال منذ تأسيسه. أما عدد أيامه فيختلف من عام إلى آخر، ليمتدّ أحيانًا على 3 أسابيع، لكن في الأغلب يقام لأسبوعين، وذلك بين نهاية يناير/ كانون الثاني ونهاية فبراير/ شباط.

وبخلاف هذا الكرنفال الشهير والعريق، قدّمت اللغة الإيطالية للعالم مُفردة “بينالي” (أي مرة واحدة كلّ عامين)، وصنعت فينيسيا مفهومها الخاص جدًا لـ”بينالي” المهرجانات الفنية. مثل: “بينالي فينيسيا الدولي للفنون” (La Biennale di Venezia)، المؤسَّس عام 1895، والمُشرف على مهرجانات عديدة. وأوّلها “بينالي الفنون التشكيلية والعمارة”. ثم تأسّس “بينالي المُوسيقى” عام 1930، و”بينالي المسرح والسينما” عام 1934. لكن، منذ عام 2000، انفصلت العمارة عن الفن، وصار لكل منهما “بينالي” خاص به. عام 1999، تأسّس “المهرجان الدولي للموسيقى المُعاصرة”، وبعد 10 أعوام، أُطلق “كرنفال الأطفال”، و”مهرجان الرقص المُعاصر”. ومنذئذ، تغيّر اسم الـ”بينالي”، فأصبح “مؤسّسة البينالي”. وإن كان اسم “بينالي فينيسيا” لا يزال يُستخدم لوصف المعارض والمهرجانات كلّها التي تُنظّمها المؤسّسة.
اللافت وبشدة أن كلمة “بينالي”، كوصف، ملائمة للعمارة والفنون مثلًا. إذ لا خطأ في استخدامها (لكل فنّ منهما مهرجان يُقام مرة واحدة كلّ عامين). لكن الخطأ كامن في استخدامها لوصف المهرجان السينمائي، الذي يُقام سنويًا. صحيح أنه بدأ كـ”بينالي”، إذ أقيمت دورتاه الأولى عام 1932، والثانية عام 1934، لكن هذا لا ينفي خطأ وصفه بتلك المفردة. والأدق اعتماد التسمية الصحيحة، الإيطالية والإنكليزية والفرنسية: “مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي”. والابتعاد عن استخدم الاسم الطويل والمُعقد وغير الدال: “معرض فنون السينماتوجرافيا الدولي لبينالي فينيسيا” Mostra Internazionale d’Arte Cinematografica della Biennale di Venezia.
منذ بداية انعقاد الـ”بينالي”، تُقام مهرجاناته واحتفالاته كلّها في أروقة الـ”أرسنالة”، أو بنايات الترسانة البحرية القديمة، الواقعة في الطرف الأقصى للبلدة القديمة. وذلك باستثناء المهرجان السينمائي، الذي اختار ـ منذ تأسيسه على يد رجل الأعمال والسياسي جوزيبي فولبي، والذي تُمنح باسمه جائزة “كأس فولبي” لـ”أحسن مُمثل/ مُمثلة” ـ جزيرة الـ”ليدو”، البعيدة عن ساحة سان ماركو والبلدة القديمة بنحو 40 دقيقة، وعن محطة القطار الرئيسية بنحو 60 دقيقة. في الـ”ليدو”، حيث يحتفل “مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي” هذا العام بدورته الـ80 (30 أغسطس/ آب ـ 9 سبتمبر/ أيلول 2023)، يختلف الأمر كلّيًا. فالمهرجان الذي توقف لأكثر من مرة على مدى تاريخه، إما لاندلاع الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، وإما لأسباب سياسية ومالية، لم يتّخذ من أية أبنية سابقة مقرات له، أو لعروضه، إذ إن أبنيته كلّها واكبته منذ تأسيسه، ورغم الطابع الفاشي الجامد للأبنية إلا أن اللمسات الفنية الإيطالية عالجت جمود وقبح هذه الأبنية، مع مرور الزمن والترميمات المتتالية، وأكسبتها جماليات ملحوظة. تُعد صالة “غراندي” أقدم صالات المهرجان. فقد افتُتحت في الدورة الـ5 عام 1937، لكنها خضعت لأعمال ترميم وتجديد كثيرة، كان آخرها عام 2011، حيث أعيدت إلى ما كانت عليه تمامًا عند افتتاحها، بالبنية والخامات والتصاميم نفسها، مع إضافة واحدة: ارتفع عدد مقاعدها من 1019 إلى 1032. أما صالة “دارسينا” المُجاورة، التي افتُتحت في خمسينيات القرن الماضي وكان صالة مفتوحة، فقد تمّت تغطيتها وتطويرها أكثر من مرة، كان آخرها قبل 7 أعوام، وتضمّ 1409 مقاعد، وهي الأقدم بعد “غراندي”.
يلمس زائر المهرجان كل عام تجديدًا وتطويرًا في محيط فعالياته المعروف باسم ميدان الكازينو، أو ساحة “ماركوني”. يُلاحظ أيضًا أن بلدية فينيسيا، بالتعاون مع مجلس إدارة البينالي، تُنفق بسخاء على دعم المهرجان لوجستيًا، سنويًا تقريبًا. مثلًا، العام الماضي جرى تمهيد المنطقة المُحيطة بقصر المهرجان والمقر الصحافي وتزيينها وفقًا للذوق الرفيع المتميز لمُصممي الديكور الإيطاليين. كذلك، تم افتتاح مقهى ومطعم يليق بالمهرجان، قاصر فقط على الصحافيين داخل المبنى التاريخي المُسمى إلى الآن بـ”الكازينو”. رغم أنه توقف عن أن يكون “كازينو” للقمار منذ سنوات بعيدة. وتحول الآن إلى مقر عملي للصحافيين وقاعة المؤتمرات، واحتضان أغلب عروض “أسبوع النُقاد”، أو “أيام المُؤلف”.





أيضًا، بعد إقامة سينما الحديقة، أو “غاريديني”، قبل 7 سنوات تقريبًا، القابلة للفك والتركيب (446 مقعدًا)، فوجئنا قبل عامين بسينما أخرى من النوعية نفسها. “كورينتو” (340 مقعدًا)، ليست بعيدة أبدًا، وقد أقيمت فوق حمام سباحة بعد تغطيته. باختصار، يزيد عدد قاعات فينيسيا على الـ9. مقاعد أصغر قاعاته 48 مقعدًا، ومقاعد أكبرها، خيمة “بالا بينالي” 1770. من هنا، يُلاحظ أن فعاليات المهرجان وعروض الأفلام في مُختلف التظاهرات تُعرض دون زحام، أو مشقة، سواء “المُسابقة الرئيسية”، أو قسم “خارج المُسابقة” في صالتي غراندي ودارسينا، أو تظاهرة “آفاق”، و”امتداد آفاق” في صالات دارسينا، وغارديني، وبالا بينالي، أو تظاهرتا “أسبوع النقاد” و”أيام المؤلف”، في صالات فولبي، وبيرلا، وبالا بينالي، وكورينتو، وغيرها.
المعروف أن مهرجان فينيسيا يمنح جائزتي “الأسد الذهبي”، و”الأسد الفضي”، وغيرهما. تصميم الجائزة على النحو المُتعارف عليه ليس من ابتكار المهرجان، كما يُخيَّل للبعض. ببساطة، يتّخذ المهرجان من شعار مدينة فينيسيا على مرّ تاريخها رمزًا له. الشعار جاء أساسًا مع تأسيس كاتدرائية “سان ماركو” في قلب البلدة القديمة، ويمثّل وجه القديس ماركوس وجسد أسد مُجنَّح. القديس ماركوس هو، في الحقيقة، القديس مُرقُص المصري. لا يعرف كثيرون أن هناك مُتعلّقات كثيرة له مُوجودة في الكاتدرائية. أما الجثمان، المسروق من مصر قديمًا ليُوضع في الكاتدرائية، فاستعادته الحكومة المصرية بعد المطالبة به. ومن هذا الشعار، استمد المهرجان شعاره وتصميمه لجوائزه.
بخلاف “المسابقة الرئيسية” الأكثر أهمية في المهرجان، يُعد قسم “آفاق” التظاهرة الكبرى المُوازية للمُسابقة الرئيسية، والمُناظر لقسم “نظرة ما” في مهرجان “كان”، أو قسم “بانوراما” في مهرجان “برلين”. وعادة ما يُعرض فيها 18 فيلمًا روائيًا طويلا تتنافس على جوائز القسم. وفي قسم “آفاق إكسترا أو امتداد آفاق”، المُستحدث مُؤخرًا، عادة ما تُعرض 9 أفلام. وأغلب الأفلام المعروضة في القسمين لمخرجات ومخرجين يقدمون أعمالًا أولى، أو ثانية، تستحق فعلا المُتابعة والاكتشاف.
كما يُقيم “اتحاد نقاد السينما الإيطالية” تظاهرة سنوية بعنوان “أسبوع النقاد”. تنعقد هذا التظاهرة المُهمة منذ 38 عامًا. وهي ليست مُنفصلة كليًا عن المهرجان، ولا تقام بعيدًا عن فعالياته، مثلما يحدث في تظاهرة “أسبوع النقاد” في مهرجاني “كان”، أو “برلين”. مهرجان فينيسيا يحتضن التظاهرة، ويضعها ضمن جداول عروضه الرئيسية، وتُعرض أفلامها داخل قاعات المهرجان ذاتها. يُشرف على اختيار أفلام التظاهرة خمسة من أعضاء اتحاد النقاد، إلى جانب رئيس الاتحاد. ويمنح الأسبوع جائزة أحسن فيلم، وذلك بناء على اختيار الجمهور. وأيضًا جائزة “أسد الأسبوع” لأفضل مُخرج واعد. الهدف من الأسبوع إلقاء الضوء على الأعمال الأولى للمخرجين الشباب، وتعريف المُنتجين والعالم بإنتاجاتهم وأسمائهم. من ناحية أخرى، تعرض التظاهرة، على هامشها، 10 من أحدث الأفلام الإيطالية القصيرة بتوقيع مُخرجين شباب، وذلك قبل بداية كل عرض من العروض الرئيسية. وعادة ما تتكون مُسابقة “أسبوع النقاد” للأفلام الطويلة من 7 أفلام، إضافة إلى فيلمي افتتاح وختام.
أما تظاهرة “أيام المُؤلفين”، التي تأسست منذ عشرين عامًا، بواسطة “جمعية المُؤلفين السينمائيين والمُنتجين المُستقلين”، فبرنامجها هو الأكبر من حيث أقسامه. لدى التظاهرة “مُسابقة رئيسية” يعرض فيها 11 فيلمًا. وقسم “أحداث خاصة”، ويعرض 7 أفلام. و”ليالي فينيسيا” ويعرض 8 أفلام. و”عروض خاصة” يعرض 5 أفلام.





وبخلاف البرامج والمسابقات الرئيسية هذه، توجد فعاليات أخرى وأكثر من قسم، لا تقل أهمية. مثلًا، قسم “كلاسيكيات فينيسيا”، ويعرض الكلاسيكيات المُرَمَّمة والمُستعادة حديثًا، ويمنح القسم جائزة سنوية لأفضل فيلم مُرَمَّم. أيضًا، قسم “العروض الافتراضية”، وقسم “عروض خاصة”، و”بينالي كولدج سينما”، وهو قسم تدريبي إيطالي ودولي ويعرض فيه الشباب والطلاب أعمالهم. هذا كله بخلاف اللقاءات والندوات التكريمية، والمعارض الفنية الفوتوغرافية، ودروس السينما، وغيرها كثير جدًا من الفعاليات والعروض والاحتفالات الترويجية غير السينمائية. 

Post a Comment

أحدث أقدم

terra

terra2