فينيسيا: تاريخ عريق وجمال ساحر

ساحة سان ماركو ليلا

 


عرّفها الشاعر البريطاني اللورد بايرون بأنها “المدينة الخُرافية”، واصفًا إياها بـ”أحد أكثر الأماكن سحرًا وتأثيرًا في القلوب”. الغالبية العظمى من العرب يُطلقون على هذه المدينة الإيطالية، ذات التاريخ العريف والجمال الساحر، اسم “البُندُقية”، اعتقادًا منهم أن الكلمة تعريب قام به القدماء. لكن كلمة “البُندُقية” ليست عربية، وهي تسمية خاطئة تمامًا. ففينيسيا كانت من قبل مملكة ودوقية، ثم أصبحت جمهورية مُستقلّة لأكثر من ألف عام. في تاريخها، حملت المدينة أسماء وأوصافًا عديدة: الجمهورية الهادئة، ملكة البحر الأدرياتيكي، الدوقية الجميلة، (Buono Duchy) بالإيطالية. تدريجيًا، ولتسهيل نطقها بالعربية، باتت تنطق “بونودوقي”، ثم “بُندُقية”. إذًا، الاسم مُجرّد تحريف خاطئ تمامًا للنطق الإيطالي لأحد الأوصاف القديمة للمدينة، فاعتقد كثيرون أنه التعريب لاسمها.
فينيسيا ليست فقط تلك الجزيرة الضخمة السياحية الشهيرة التي تظهر في الصُوَر والأفلام، فهي مُنقسمة إلى جزأين: رئيسي كبير مُتّصل باليابسة (ميسترى)، يبتعد عن فينيسيا العائمة 9 كم، وتُقطع المسافة بينهما بالقطار، أو الحافلة. وآخر مُتمثّل في الجزر الـ118. والقنوات المائية الرئيسية (150 تقريبًا)، والجسور التي تعد بالمئات. ويعتقد كثيرون أن القنوات المائية في أرجاء فينيسيا هي مياه البحر الأدرياتيكي، لكنها مياه “لاغون”، أي بُحيرة مالحة ضحلة تُحاذي مياه البحر، وتتصل به في غير موضع، ولا يتجاوز عمقها مترين اثنين، وتغلب عليها رائحة عطنة تجذب حشرات كثيرة، خاصة البعوض في ليالي الصيف، وهي غير صالحة للسباحة أبدًا. ومن ثم، فإنّ الاتصال الأساسي بالأدرياتيكي يمرّ عبر جزيرتي “ليدو” و”سانتا ماريا ديل ماري”، اللتين، رغم استطالتهما ونحافتهما، تعملان كحاجز منيع يحمي معظم الجزر داخل الـ”لاغون”. إنهما شاطئا المدينة الرئيسيان الصالحان للسباحة. وهما الوحيدتان اللتان تمتلكان بناءً عصريًا حديثًا مُتعدّد الطوابق، وشوارع مُمهَّدة، وإشارات مرور. ويُسمح فيهما بعبور السيارات الخاصّة والنقل العام. لكنهما، بشكل عام، غير معروفتين كثيرًا للسيّاح الذين يعتقدون أن فينيسيا هي فقط ساحة سان ماركو والحواري والأزقة المحيطة بها، أي البلدة القديمة. ربما يسمع قلة بجزيرتي “مورانو” و”بورانو” ويزورانهما. ففي الأولى صناعة زجاج عالمي مشهور جدًا. وفي الثانية صناعة “دانتيل” فاخر للغاية.


قناع فينيسي شهير
 

تعد سان ماركو أشهر ساحات فينيسيا. تتميز ببرجها الجرسيّ الذي يمكن من خلاله رؤية جُزر عديدة، وبعض جوانب كاتدرائيتها المهيبة التي تحمل الاسم نفسه، وهي تحفة فنية فريدة من نوعها في أوروبا. على بعد أمتار، يقع أحد أشهر القصور القوطية في المدينة: “قصر الدوقي”، المُشيِّد عام 1340، حيث مقرّ الحكم، وسكن الملوك والدوق، على مرّ العصور. وأيضًا حيث يوجد السجن الموضوع فيه جياكومو كازانوفا. وهناك أيضًا “جسر التنهّدات”، الذي يصل القصر بالمحكمة القديمة، حيث كان السجناء ينقلون عبره من الأولى إلى الثانية. ولذا، أطلق عليه اللورد بايرون هذا الاسم، تعبيرًا عن آلام المساجين والمُعذّبين والمُضطهدين. في عام 1923، تحوَّل القصر إلى أحد أشهر متاحف المدينة الـ11.


مدينة فينيسيا



يُعد “مقهى فلوريان” (1720) في ساحة سان ماركو أعرق وأقدم مقهى في العالم، ولم يُغلِق أبوابه إلى الآن. تردد عليه أدباء كبار، مثل كارلو غولدوني، وولفجانغ فون غوته، وجياكومو كازانوفا، واللورد بايرون، ومارسيل بروست، وتشارلز ديكنز، وإرنست همنغواي، وغيرهم من مشاهير الفن والسينما والمال. أما توماس مان فكان يُفضِّل الابتعاد عن فينيسيا السياحية وساحتها الرئيسية والإقامة في جزيرة “ليدو” التي تردّد منذ عام 1911 على فندقها التاريخي المعروف باسم “أوتيل دي بان”، الذي تأسس عام 1900. وصُوِّر فيه أحد أشهر الأفلام السينمائية المُقتبسة عن نصّ أدبي لتوماس مان، “الموت في فينيسيا” (1971) لفيسكونتي.
كما كانت جزيرة ليدو مسرحًا لغراميات اللورد بايرون مع حبيبته الإيطالية، وزوجة أحد نبلاء المدينة. على شاطئها، كان يسبح دائمًا. لكنه بدأ تأليف مسرحيته “مارينو فاليريو: دوق فينيسيا”، وأولى مقاطع “دون خوان” في جزيرة “سان لازارو”. بايرون الذي جاء إلى إيطاليا هاربًا من الديون والفضائح، وعاش أعوامًا عديدة في فينيسيا، قضى معظمها في جزيرة “سان لازارو”، حيث عاش مع الرهبان الأرمن، وتعلم اللغة الأرمنية، وشارك في إعداد المُعجم الإنكليزي الأرمني. “سان لازارو” من أسرار فينيسيا الدفينة. كانت سابقًا مُستعمرة للجذام. وفي عام 1717، منحها دوق فينيسيا لراهب كاثوليكي أرمني لتأسيس طائفته الدينية، فبنى الرهبان الأرمن كنيستهم وصوامعهم، ولا يزالون يعيشون فيها حتى اليوم. ويُعد متحفها أكبر كنز خارج أرمينيا للمخطوطات والكتب الأرمنية والعبرية وأدوات الطباعة. أيضًا، يتضمّن سجلات دقيقة لما نهبه نابوليون بونابرت من القاهرة في أثناء الحملة الفرنسية، وفيه مومياءات مصرية أصلية، ونسخ قديمة ونادرة من الأناجيل، وبعض أجزاء من القرآن.


جزيرة مورانو - فينيسيا


يصعب فعلًا حصر جُزر فينيسيا، فهي جمهورية قائمة بذاتها حقًا لعشرات القرون. بعض جزرها صغيرة جدّا، والأخرى كبيرة فعلًا. بعضها يسكنه الآلاف، وأخرى يسكنها العشرات فقط، أو لا أحد بالمرة. بعض منها مجرّد أديرة قديمة مهجورة، أو مُستخدمة، ومنها ما هو فنادق صغيرة. جزر أخرى قليلة عبارة عن مقبرة ضخمة رائعة من الخارج. باختصار، فينيسيا ليست فقط “القنال الكبير”، وساحة سان ماركو، ومُحيطهما والمراكب الصغيرة (الجندول). ولا هي المباني الأثرية والقصور الفخمة والمتاحف المتميزة والكنائس والكاتدرائيات الفريدة في البلدة القديمة. إنها بالفعل دولة يحتاج زائرها إلى أشهر عديدة لاكتشافها ومعرفة تراثها، ومُلاحظة كل ما هو “فينيسي” خالص فيها، وإدراك أن لها لهجتها الخاصة، وأن مُفردات هذه اللهجة الفينيسية صعبة، حتى على الإيطاليين أنفسهم.

Post a Comment

أحدث أقدم

terra

terra2