![]() |
لقطة علوية لجزيرة جوديكا - فينيسيا |
فينيسيا - محمد هاشم عبد السلام -
إن التركيبة السكانية لمدينة فينيسيا فريدة ومُنفتحة منذ قرون عديدة على كافة الأجناس والأعراق، نظرًا إلى موقعها واتصالها المُتفرّد بالعالم، وجمالها الجذّاب، وقوّتها التجارية. لم تكتف بكونها مدينة أو جمهورية حاضنة ومُستقبِلة، بل أفرزت وأنتجت للعالم الكثير، في العمارة والفن التشكيلي والموسيقى والرحلات الاستكشافية والطباعة، وغيرها مما تفردت به عالميًا، دون غيرها. كما كانت فينيسيا مركزًا مهمّا لمختلف الفنون عبر العصور، ومُلهمة لأدباء كثيرين، خصوصًا بين القرنين الـ13 والـ18. قدّمت فينيسيا للعالم أبرز الأسماء وألمعها في ميادين عديدة، لا تزال تتردّد لغاية اليوم. في الموسيقى، هناك غويسيبي تارتيني، وأنطونيو فيفالدي. تشكيليًا، هناك “مدرسة فينيسيا” العريقة، وجاكوبو روبوستي المعروف بجاكوبو تينتوريتّو، وباولو كالياري المعروف بباولو فيرونازي، وتيزيانو فيتشيليو الملقّب بتيتيان.
على مدى تاريخها برزت المدينة، ذات العمارة والتصميم الفريدين، في أعمال فنية رصينة لكبار الأدباء، منذ الإنكليزي وليام شكسبير إلى مواطنه المُعاصر إيان ماك إيوان. وبالطبع في “عبر النهر وباتجاه الأشجار” (1950) لإرنست همنغواي، حيث كثير من الأحداث تدور في فينيسيا ومُحيطها. إذ عاش همنغواي في فينيسيا لفترات طويلة، وكتب عنها بناءً على تجربة شخصية بحتة.
في مقابل الاهتمام الفني الغربيّ بفينيسيا، لم يكترث الإيطاليون كثيرًا. في الأدب مثلًا، لم يشتغل أدباء إيطاليون كثيرون عليها في نصوصهم وأعمالهم، باستثناء كارلو غولدوني، وإيتالو كالفينو. في حين خلّدها شكسبير في مسرحيتي “عطيل، أو مستنقع فينيسيا” (1604)، و”تاجر فينيسيا” (1605).
وقد اقتبست “عطيل”، ذلك العمل المُلهِم والمثير للخيال، سينمائيًا مرات عديدة. أبرزها لأورسون ويلز، وفرانكو زيفريلّي، الذي صنع منه نسخة أوبرالية عام 1986. اقتباس ويلز عام 1952 فاز عنه بـ”الجائزة الكبرى”، مُناصفة، في الدورة الـ50 لمهرجان “كانّ” السينمائي. اقتباس استغرق تصويره 3 أعوام، وصدرت منه مُؤخرًا نسختان مُرمّمتان: واحدة صوَّرَها ويلز. وأخرى تدخّلت فيها الشركة المنتجة، فعدَّلتها أو نقَّحتها، أو بالأحرى “شوَّهَتها”.
ورغم كون “تاجر فينيسيا” دراما هزلية شديد العمق والطرافة، إلا أنها لم تُقتَبس كثيرًا للسينما، مُقارنة بـ”عطيل”. ورغم اقتباس “تاجر فينيسيا” سينمائيًا منذ عشرينيات القرن الـ20، إلا أنّ النسخة الأكثر نجاحًا هي تلك التي أخرجها البريطاني مايكل رادفورد عام 2004 بالعنوان نفسه، وبطولة أل باتشينو في دور “شيلوك”. أورسون ويلز اقتبس المسرحية أيضًا، وأنجز تصوير نصف فيلم تقريبًا، لكن التعثر المالي حال دون اكتمال المشروع. لاحقًا، زعم ويلز سرقة النيغاتيف المُصوَّر. إلا أن ما تبقى منه لم يكن يتعدّى 36 دقيقة، جرى ترميمها وعرضها عام 2015 في الدورة الـ72 لمهرجان فينيسيا، بمناسبة المئوية الأولى لولادة أورسون ويلز.
رغم هذا كلّه، فإنّ أشهر لقاء بين الأدب والسينما المعنيَّين بفينيسيا، الأنجح حتى الآن، يتمثّل في رائعة الألمانيّ توماس مان “الموت في فينيسيا” (1912)، التي اقتبسها فيسكونتي عام 1971، بعد تعديلات طفيفة على الرواية. في النهاية، مُعالجته السينمائية لم تُجافِ الأصل. أبرز التعديلات تمثّلت في تحويل بطلها الكاتب آشنباخ إلى مؤلّف موسيقي. طبعًا، أحداث الرواية والفيلم معروفان. لكن اللافت للانتباه بخصوصهما أنه يندر أن تدور أحداث رواية في فينيسيا، وتبتعد عن القلب التاريخي والسياحي للمدينة. كما لم يحدث أيضًا أن صُوِّرَت أعمال سينمائية في الـ”ليدو”، أو في غيرها من جُزر فينيسيا.
في فندق “أوتيل دي بان” في “ليدو”، حيث كان آشنباخ يقضي عطلته في هدوء متأمّلًا الحياة والفن وحياته بشكل عام، صَوَّر فيسكونتي فيلمه هذا. لم يتخيّل أحد ما سيكون عليه مصير الفندق العريق، الذي استقبل نجومًا كثيرين كانوا ضيوف مهرجان فينيسيا، فهو مُغلق منذ أعوام عديدة بسبب ترميمه الذي لا نهاية له. يُذكر أن الفندق، وهو أحد المعالم التاريخية للجزيرة، استُخدِمَ في تصوير مشاهد عديدة في “المريض الإنكليزي” (1996) للبريطاني أنتوني مانجيلا ـ المقتبس عن رواية بالعنوان نفسه للكندي مايكل أونداتجي، صدرت عام 1992 ـ باعتباره “فندق شيبرد” في القاهرة، الذي احترق في يناير/ كانون الثاني 1952، في أثناء ما يُعرف بـ”حريق القاهرة”.
باختصار، يمكن القول إنه سينمائيًا، وربما يُعزى هذا إلى التاريخ القصير نسبيًا للسينما، لم يكن تناول فينيسيا سينمائيًا عميقًا وجماليًا وفنيًا، بل سياحيًا واستعراضًا ومشهديًا، أكثر من أي شيء آخر. رغم أن أغلب الأنواع السينمائية اتّخذت من المدينة خلفية لها، أو كانت المدينة نفسها “مكانًا” تجري فيه بعض الأحداث، أو معظمها، سواء في أفلام جاسوسية وإثارة وتشويق ومُغامرة، كما في سلسلة جيمس بوند، مثلًا، أو أفلام حبّ ورومانسية وكوميديا لمُخرجين غربيّين عديدين، مثل ستيفن سبيلبيرغ، وأنتوني مانجيلا، وستيفن سودربيرج، وبول شرايدر، ووودي آلن، ولوك بيسّون.
ورغم صعوبة حصر الأعمال الفنية كلّها التي تناولت مدينة فينيسيا، أو اتّخذت منها مسرحًا لأحداثها، لكن اللافت للانتباه أن شخصية تاريخية عظيمة، كالرحّالة والمُستكشف ماركو بولو، مثلا، المولود والمتوفّى في فينيسيا، لم تجذب كبار المخرجين لتناولها وتقديم حياتها، أو حتى الأدباء، باستثناء الإيطالي إيتالو كالفينو في “مدن لا مرئية” (1972). بدرجة أقل، ينطبق الأمر على جياكومو كازانوفا، الذي لم يُصنع عنه كثير، بل تمّ تناول الجانب الفضائحي في حياته، واختُزل شخصه في علاقاته النسائية، رغم المعالجة الفريدة التي اعتمدها فيدريكو فيلّيني في تناوله تلك الشخصية الدرامية الثرية والمُثقّفة والفريدة من نوعها، والتي تتحدّث لغات عديدة، والتي مارست أعمالًا كثيرة، وعاشت في بلدان مختلفة، وماتت غريبة عن وطنها. رغم أن المُلابسات الطريفة التي صاحبت هروب كازانوفا من زنزانته، بحفره إياها بإزميل ومِلعَقة، وغيرها من وقائع، كفيلة بصنع فيلم، أو كتابة عمل أدبي على قدر بالغ من التشويق والإثارة.
إرسال تعليق